16 سبتمبر 2025
يستنكر مركز الميزان لحقوق الإنسان بأشد العبارات الجرائم الإسرائيلية البشعة المستمرة بحق المدنيين في قطاع غزة، وسياسة إيقاع أكبر الخسائر في صفوفهم من خلال عمليات القصف المباشر وقتلهم داخل منازلهم وفي أماكن نزوحهم، وتصعيد تدمير الأبراج والبنايات السكنية ونسف المربعات السكنية، ودفع مئات الآلاف للنزوح من مدينة غزة، وسط ظروف إنسانية كارثية، بهدف القضاء عليهم كلياً أو جزئياً، في سياق تنفيذها للإبادة الجماعية.
فقد تصاعدت عمليات القصف المركز لتجمعات المدنيين داخل الأحياء السكنية لا سيما في مناطق مختلفة من مدينة غزة، وطالت الهجمات المنازل السكنية التي دمرت فوق رؤوس أصحابها، وقتلت عائلات بأكملها، حيث تعرضت مدينة غزة فجر الثلاثاء 16/9/2025، لقصف إسرائيلي عنيف، واستهدفت ثلاثة منازل سكنية في محيط منطقة الأمن العام في حي النصر بمدينة غزة ما تسبب في سقوط 23 شهيداً وأكثر من 40 مصاباً. واستهدفت مجموعة من المنازل في محيط ساحة الشوا وسط مدينة غزة، واستشهد 12 وأصيب 14 آخرين، واستشهد 20 مواطناً في استهداف مجموعة منازل في حي الدرج شرق مدينة غزة، وهجمات طالت منازل وأحياء سكنية أخرى. وبحسب الدفاع المدني الفلسطيني فإن العشرات لا زالوا تحت الأنقاض.
وكثفت قوات الاحتلال خلال الأيام السابقة من عمليات استهداف الأبراج السكنية في مدينة غزة، وبحسب المعلومات الميدانية فإنه ومنذ مطلع سبتمبر 2025 وحده، دمرت قوات الاحتلال 70 برجاً وبناية سكنية متعددة الطبقات بشكل كامل، ودمرت 120 برجاً وبناية سكنية تدميراً بالغاً، بالإضافة إلى مئات الخيام التي كانت مقامة ومأهولة في محيط الأبراج السكنية ودمرت بفعل تدمير هذه الأبراج. وبالتالي فإن آلاف الأسر أصبحت في الشارع دون مأوى، وتسبب في نزوحهم داخل المناطق الغربية من مدينة غزة، وباتجاه جنوب القطاع.
واستخدمت الروبوتات المتفجرة في عمليات نسف الأحياء السكنية في مناطق مختلفة من مدينة غزة، لا سيما مناطق الزيتون والصبرة والشيخ رضوان، وصاحب عمليات نسف المباني قصف مكثف لمناطق مختلفة من المدينة، وإطلاق نار من قبل المسيرات لا سيما بالقرب من التجمعات السكانية في حي النصر، الشيخ رضوان، تل الهوى، ومخيم الشاطئ، وهي المناطق الغربية من مدينة غزة، وكانت هذه التفجيرات وعمليات القصف تسمع في كل مناطق مدينة غزة. وسبق هذا التصعيد تصريحات لمسئولين إسرائيليين، يأمرون فيها سكان غزة النزوح نحو جنوب القطاع، ويحذرونهم من عدم الامتثال لهذه الأوامر.
وتسببت الهجمات الحربية الإسرائيلية في خلق حالة من الخوف والهلع بين السكان، وافترشت آلاف الأسر الشوارع والميادين العامة في المناطق الغربية من مدينة غزة، وتوجهت فجراً آلاف الأسر باتجاه جنوب القطاع لا سيما إلى مواصي خان يونس، هرباً من عمليات القصف والقتل، واتجه أغلب المهجرين قسراً سيراً على الأقدام بسبب عدم توفر وسائل النقل وغياب الوقود اللازم لتشغيلها، وارتفاع تكلفة نقل الأسرة ومتاعها لحوالي 1000 دولار أمريكي إذا توفرت وسيلة نقل. وتزداد معاناة المهجرين بسبب السير لمسافات طويلة وطوال ساعات اليوم، وسط حالة من الاكتظاظ والمشقة الكبيرة، لا سيما للأطفال، والنساء، وكبار السن، والمرضى.
أفاد (أ. غ)، بعد ساعات طويلة من الانتظار، وحمل شتاتنا المرهق، وترتيب ما تبقى من البيت على عجل، صعد أهلي إلى شاحنة صغيرة تقلهم نحو وجهة النزوح الجديدة في وسط غزة، كان الطريق على شارع الرشيد هو الأمل الوحيد، بوابة ضيقة للخروج من حصار الخوف، لكن، وبعد كل هذا التعب، لم يقطعوا سوى مئات الأمتار، قبل أن تتوقف الشاحنة وسط زحام خانق سد الطريق تماماً. ساعات أخرى من الانتظار المجهض، ثم عودة قسرية إلى نقطة البداية، كأن النزوح ذاته يأبى أن يمنحنا فسحة نجاة. تخيلوا، بعد كل ذلك الجهد والرجاء، لم يكتب لهم أن يعبروا إلى المنطقة الوسطى. وكأن قدر غزة أن تدور في حلقة مفرغة، نزوح بلا وصول، تعب بلا جدوى، وأبواب مغلقة في وجه حتى الهاربين من الموت.
هذا ويعيش النازحون في المناطق المحددة على أنها إنسانية أوضاعاً معيشية وإنسانية سيئة للغاية، بسبب عدم توفر الحد الأدنى من متطلبات البقاء على قيد الحياة، من مأوى ومياه وغذاء، وتشهد تلك المناطق اكتظاظاً شديداً، بحيث لا يوجد متسع لإقامة خيمة واحدة، إذ تبلغ المساحة الإنسانية التي حددتها قوات الاحتلال في الجنوب 12% من مساحة قطاع غزة، وهي تحاول حشر كل سكان قطاع غزة فيها، وهذا دفع بمئات الأسر التي نزحت لتلك المناطق قبل أيام تعود مرة أخرى إلى مدينة غزة.
وحتى 14 سبتمبر، يقدَر عدد السكان في قطاع غزة بنحو 2.1 مليون شخص، ويقع 82٪ من أراضي القطاع ضمن مناطق عسكرية أو تحت أوامر الاخلاء، خلال الفترة من 10 وحتى 14 سبتمبر استمرت العمليات العسكرية في التزايد داخل مدينة غزة مما دفع الناس إلى الفرار نحو الجنوب وتحديداً إلى المنطقة الإنسانية دير البلح، وخان يونس، وتكلفة النقل من مدينة غزة إلى ما يُعرف بـ المنطقة الإنسانية أصبحت باهظة جداً، وتتراوح حالياً بين 950 شيكل و5,600 شيكل إسرائيلي، مما جعل الكثير من الأشخاص عالقين في مناطق تخضع لأوامر الاخلاء.[1]
أفاد المواطن (ح. م)، رجعت أنا وأسرتي المكونة من 6 أفراد إلى مدينة غزة من مدينة خان يونس أين كنت أعيش في خيمة في وقت التهدئة بداية العام الحالي 2025، واستأجرنا منزلاً بعد تدمير منزلنا بالكامل في المدينة، وبعد أوامر الإخلاء المتكررة التي طالب فيها جيش الاحتلال الانتقال إلى الجنوب، توجهت بتاريخ 24/8/2025، إلى منطقة مواصي خان يونس، عند خيمة تعود لأحد أقاربنا، مكثت هناك يومين كاملين وأنا أبحث في كل المنطقة عن مكان لأضع فيه خيمتي ولم أجد، الخيم متراصة بجانب بعض وبالكاد تستطيع السير بينها، حتى الشوارع الرئيسية مغلقة ويوجد عليها خيم ولا يوجد متسع لوضع خيمة أخرى، حتى إني توجهت إلى منطقة معسكر خان يونس، ولكني وجدت الامور خطيرة جدا هناك، وقوات الاحتلال تقصف ما يتحرك في المنطقة، عدت إلى مدينة غزة ولا أعلم إلى أين أذهب، أنا الآن قررت البقاء في المنزل، وطلبت من بعض الأقارب للبحث لي عن مكان حتى مقابل مادي، ولكن لم يجد أحد لي مكان حتى الآن ولا أعرف ماذا أفعل.
صرحت أولغا تشيريفكو، المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في غزة: "تلقّت مدينة غزة حكمًا بالإعدام – ارحلوا وإلا فسوف تُقتلون. فقد وُجِّهت الأوامر إلى مئات الآلاف من المدنيين الذين نال منهم الإنهاك والإرهاق والترويع بالفرار إلى منطقة مكتظة أصلًا إلى حد تُضطر معه حتى الحيوانات الصغيرة للبحث فيها عن موطئ قدم لكي يتيسّر لها أن تتحرك فيها، إذ تؤوي المستشفيات المرضى في ممراتها وشرفاتها، وحيث ما عادت المياه النظيفة والأطعمة المغذية والحياة حقوقًا أساسية، وإنما باتت سلعًا نادرة إلى درجة لا يحلم معظم الناس في الحصول عليها يومًا ما، وذلك لو تسنّت لهم فرصة النجاة من القصف. فمن الغرب – البحر الذي تحاصره البوارج الحربية الإسرائيلية، وأمواجه المشؤومة التي تبتلع الخيام المهترئة عند ارتفاع المد. ومن الشرق والشمال والجنوب – القوات البرية والدبابات تواصل إحكام قبضتها على المساحات الآخذة في التلاشي، في الوقت الذي تحلق فيه الطائرات المسيّرة والمقاتلات الحربية فوق رؤوس الناس، وصوتها الذي يصمّ الآذان يرسَخ في الذاكرة إلى الأبد – وتبثّ تحذيرًا بأن لا مكان آمنًا.[2]
إن المخطط الإسرائيلي الهادف إلى تهجير سكان غزة وشمالها لجنوب القطاع، سيضعهم في ظروف أقرب إلى معسكرات جماعية، تذكر بأساليب الإذلال الجماعي والحرمان الممنهج المستخدمة في فترات مظلمة من التاريخ، حتى أن قوات الاحتلال تلاحقهم هناك بالقصف والقتل والتجويع، ويخشى أن تكون هذه الخطوة مقدمة لخلق بيئة من الفوضى والمعاناة والانهيار التام، تستخدم لاحقاً كمبرر أو كفرصة لفرض حلول إنسانية زائفة، مثل الترحيل الجماعي إلى خارج القطاع، ما يعد تهجيراً قسرياً، وجريمة بموجب القانون الدولي الإنساني وميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
مركز الميزان لحقوق الإنسان إذ يستنكر عمليات القتل الجماعي التي تقوم بها إسرائيل من خلال الهجمات الحربية والقصف المباشر، وتدمير الأبراج والبنايات السكنية وتهجير سكان غزة قسرياً، في سياق المخطط الإسرائيلي لتهجير سكان القطاع، وخلق وقائع على الأرض بضمن إلحاق الأذى بالمدنيين، والدفع بقطاع غزة ليكون غير قابل للحياة، ومكاناً للموت والدمار، فإنه يؤكد في الوقت ذاته على أن هذا التصعيد الخطير والمنهجي، يمهد لمزيد من الدمار الشامل، والاقتلاع القسري للسكان المدنيين من أراضيهم، وهو ما أصبح واضحاً من خلال تصريحات القادة الإسرائيليين المتكررة والعلنية، ومن خلال الممارسة على الأرض، ما يشكل تطهيراً عرقياً وتهديداً وجودياً لحياة ما يزيد عن مليوني إنسان.
ويعيد المركز تحذيره للمجتمع الدولي من توسيع نطاق الكارثة الإنسانية وتصاعد الجرائم من بينها جريمة التهجير القسري، وعليه، يطالب المركز لا سيما الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقيات جنيف، وهيئات الأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية، ومجلس الأمن بالتحرك الفوري والجاد لوقف حرب الإبادة على قطاع غزة، ومنع تنفيذ مخطط تهجير السكان قسرياً، وإتاحة وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، وتأمين الحماية الفورية للمدنيين، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ترتكب بحق سكان القطاع.