تنظر منظمات حقوق الإنسان، الموقعة على هذه الورقة، بخطورة بالغة، إلى ما وصلت إليه أنماط التدخل في القضاء وشؤون العدالة، والمساس بالمبادئ الدستورية الراسخة في القانون الأساسي المعدل، في ضوء إصدار السيد الرئيس قرار بقانون رقم (16) لسنة 2019 بتعديل قانون السلطة القضائية وقرار بقانون رقم (17) لسنة 2019 بتشكيل مجلس قضاء أعلى انتقالي بتاريخ 15/7/2019 ونشرهما في الجريدة الرسمية، لما يشكلانه من انزلاق خطير يمس بالشرعية الدستورية ولاسيما مبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال السلطة القضائية، ومرتكزات الحكم الصالح، الأمر الذي يُفقد الحقوق والحريات العامة أوجه الحماية القضائية، التي تتطلب سلطة قضائية مستقلة تحتكم في تشكيلها ووظائفها إلى القانون ومبدأ المشروعية دون سواه.
ينحو الفقه والتشريع الدستوري الحديث إلى اعتبار مبدأ استقلال السلطة القضائية من أهم شروط الدساتير الديمقراطية، ومنحها ذات المكانة التي تتمتع السلطتان التنفيذية والتشريعية، بوصفها الذراع الحامية للحقوق والحريات العامة، ومبدأ سيادة القانون، الأمر الذي يتطلب تضمين الدساتير والقوانين القواعد التي تكفل الاستقلال ومتطلباته، من خلال إرساء دعائم تنظيم دستوري وقانوني خاص يضمن حماية استقلال السلطة القضائية من الناحية الإجرائية المُتصلة بتشكيلها، ومن الناحية الموضوعية المُتعلقة بوظيفتها. وهو الأمر الذي استجاب له القانون الأساسي الفلسطيني (الدستور المؤقت) من خلال المواد الدستورية (97، 98، 99، 100).
إن مبدأ سمو الدستور، يتطلب التزام التشريعات العادية بأحكام ومقاصد التشريع الدستوري وعدم مخالفته، الأمر الذي يفرض على المشرّع العادي (السلطة التشريعية) توخي أقصى درجات الحيطة لدى قيامه بسَّن التشريعات، وينسحب الأمر أيضاً، من باب أولى، على التشريعات الاستثنائية (القرارات بقانون) التي تصدر في غير أدوار انعقاد المجلس التشريعي، وفي حالة الضرورة التي لا تحتمل التأخير، على اعتبار أنها تتمتع بذات القوة القانونية التي تحملها القوانين العادية، لكنها ليست قوانين، وإنما قرارات من السلطة التنفيذية لها قوة القوانين، ويصبح الأمر مدعاة لمزيد من الحيطة حين تتعلق المسألة؛ بالسلطة القضائية، التي اعتبرها القانون الأساسي الفلسطيني من المسائل الدستورية التي أفرد لها تنظيماً خاصاً ومُغايراً عن المسائل الأخرى.
يأتي تعديل قانون السلطة القضائية، في ضوء الأزمة الراهنة وحالة الاستقطاب والصراعات غير المسبوقة التي يشهدها النظام السياسي الفلسطيني، وتداعياتها الخطيرة على منظومة حقوق الإنسان في فلسطين. واستمرار التراجع في إعمال التزامات فلسطين الدولية بعد انضمامها للاتفاقيات الأساسية لحقوق الإنسان؛ خاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، الذي يُملي على الدول الأطراف التزاماً بضمان استقلال القضاء وحيدته. كما أن القرارات بقانون المذكورة تتعارض مع مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية لعام 1985 التي تؤكد على وجوب كفالة استقلال السلطة القضائية، وتخالف أيضاً جوهر المبادئ الدستورية الوطنية التي تضمن استقلال القضاء.
تابعت المنظمات قيام السلطة التنفيذية بتعديل قانون السلطة القضائية وحل مجلس القضاء الأعلى وكافة هيئات المحكمة العليا ومحاكم الاستئناف، وتشكيل مجلس انتقالي بصلاحيات واسعة ومفتوحة ودون معايير أو ضوابط، وبعد الاطلاع على فحوى التعديلات، فإن المنظمات تؤكد على ما يلي:
- إن مسألة تعديل قانون السلطة القضائية، جعلها المشرع الدستوري من بين المسائل الدستورية، التي وضع لها تنظيماً خاصاً، وإجراءات مُغايرة عن تلك التي تُعدل بها القوانين العادية، حيث فرض على سلطة التعديل بموجب المادة (100) من القانون الأساسي المعدل، أخذ رأي مجلس القضاء الأعلى، في مشروعات القوانين التي تنظم أي شأن من شؤون السلطة القضائية بما فيها النيابة العامة، الأمر الذي لم يتم اتباعه، حيث يظهر من ديباجة القرارين بقانون، أنهما جاءا بناءً على توصيات اللجنة الوطنية لتطوير قطاع العدالة برئاسة رئيس مجلس القضاء الأعلى، التي شكلتها السلطة التنفيذية، وليس بعد أخذ رأي مجلس القضاء الأعلى وفقاً لما يقتضي إجرائه وفقا المادة الدستورية سالفة الذكر.
- منح القرار بقانون رقم (17) لسنة 2019م من خلال المادة (2) فقرة (3) المجلس الانتقالي صلاحيات واسعة من بينها تلك المُتعلقة بعزل أي قاض، بتنسيب لرئيس الدولة، مما يُشكل إهداراً صريحاً لمبدأ عدم قابلية القضاة للعزل في غير الأحوال التي أجازها القانون، والمكفول بموجب المادة الدستورية (99/2) من القانون الأساسي، والمادة (27) من قانون السلطة القضائية، والذي يُعد متطلباً أساسياً من مُتطلبات الضمان القضائي الخاص بحماية الحقوق والحريات وسيادة القانون، علاوةً على أن صلاحية العزل حال وجد المجلس الانتقالي أن في استمرار شغل القاضي لوظيفته ما يمس بهيبة القضاء وثقة الجمهور به؛ تُنذر بزيادة الإدارة التحكمية التي تتنافى مع عدالة ونزاهة ودور السلطة القضائية، لانعدام الضابط في هذا الجانب.
- إن إصلاح وتطوير السلطة القضائية والنيابة العامة التي أناطها القرار بقانون رقم (17) سالف الذكر، بالمجلس الانتقالي، بالمفهوم والصلاحيات الواسعة التي أوردها، والتي امتدت أيضاً إلى إعداد مشاريع معدلة لقانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002م وتعديلاته، وقانون تشكيل المحاكم النظامية رقم (5) لسنة 2001م وتعديلاته، وأي قوانين أخرى من رزمة القوانين القضائية حسبما جاء في المادة (2/4) منه؛ تنطوي على مساس بمبدأ السيادة الشعبية، على اعتبار أنه يُصادر دور البرلمان -مُمثل الإرادة الشعبية- في وضع القوانين والتشريعات التي تنظم كافة المصالح الاجتماعية بما فيها مصلحة وحق المجتمع في قضاء مُستقل وعادل. كما أن الإصلاح لا يأتي على حساب انتهاك القانون الأساسي.
- أكد قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002م، بموجب المادة (81) على صلاحية رئيس السلطة الفلسطينية بناءً على تنسيب من وزير العدل، إصدار قرار تشكيل مجلس قضاء أعلى انتقالي مرة واحدة ولمدة أقصاها عام واحد، الأمر الذي جرى بموجب المرسوم الرئاسي رقم (11) لسنة 2002م، وعلى أن يخضع تشكيل المجلس الذي يلي المجلس الانتقالي، لقانون السلطة القضائية وتُطبق بشأنه أحكام المادة (37)، وبالتالي فإن القرار بقانون رقم (17) لسنة 2019، الذي تضمن تشكيل مجلس انتقالي جديد، يُخالف أحكام قانون السلطة القضائية، وتوجهات المشرع الدستوري والعادي في جعل تدخل السلطة التنفيذية في تشكيل مجلس القضاء الأعلى، لمرة واحدة، ولأغراض التأسيس الأولي للمجلس الانتقالي فقط، وغَلْ يدها بعد ذلك عن التدخل في شؤون السلطة القضائية.
- أنشأ قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002م دائرة التفتيش القضائي بموجب الفصل الثاني من الباب الرابع ونظم مساءلة القضاة تأديبياً بموجب الفصل الرابع من الباب ذاته، وبالتالي يُمكن اللجوء إليهما لمساءلة القضاة على تجاوزاتهم، مع حفظ حقهم في الدفاع عن أنفسهم، وبالتالي فإن الإصلاح لا يكون بتجاوز سيادة القانون، كما أن أزمة القضاء ليست أزمة قانون، بل انتهاك سيادة القانون والنيل من المبادىء والقيم الدستورية ومتظلبات النزاهة والشفافية ومرتكزات الحكم الصالح.
- إن التدهور المستمر في أوضاع السلطة القضائية، كما السلطة التنفيذية وحل السلطة التشريعية، يكمن في استمرار الانقسام السياسي الفلسطيني وتداعياته، وعدم الالتزام بأحكام قانون السلطة القضائية، وليس في قانون السلطة القضائية ذاته، بل في سعي السلطة التنفيذية للهيمنة على القضاء وشؤون العدالة، ومخالفات السلطة التنفيذية المتكررة للقانون الأساسي والمبادىء الدستورية.
وعليه، فإن منظمات حقوق الإنسان، وانطلاقاً من دورها وحرصها على تعزيز احترام مبدأ سيادة القانون، والحقوق والحريات العامة، ومبدأ الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، يدعو إلى الآتي:
- إلغاء القرارين بقانون رقم (16) لسنة 2019م بشأن تعديل قانون السلطة القضائية وقرار بقانون رقم (17) لسنة 2019 بتشكيل مجلس قضاء أعلى انتقالي، لمخالفتهما أحكام القانون الأساسي ومبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال القضاء، والتزامات فلسطين الدولية وبخاصة الواردة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ومبادئ الأمم المتحدة بشأن استقلال السلطة القضائية.
- الالتزام بقانون السلطة القضائية ومبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات في علاقة السلطة التنفيذية بالسلطة القضائية، ووقف تدخلات السلطة التنفيذية وأجهزتها في الشأن القضائي، والمعاقبة عليها، وتفعيل دائرة التفتيش القضائي وقواعد مساءلة القضاة تأديبياً التي نظمهما قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002م لدى القيام بأية إجراءات ترمي إلى معالجة تجاوزات القضاة، مع ضمان حقهم في الدفاع، ورفدها بالإمكانات المناسبة، لتمكينها من القدرة على الاضطلاع بوظائفها.
- منح الأولوية وبذل الجهود كافة لإنهاء الانقسام الفلسطيني على أساس برنامج عدالة انتقالية يُعالج كافة الأضرار الناجمة عن الانقسام، والعمل الجاد على إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، على أسس ديمقراطية، قائمة على المبادىء والقيم الدستورية، ومنسجمة مع التزامات فلسطين الدولية.
- إصدار مرسوم رئاسي بتحديد موعد لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، في كافة المحافظات الفلسطينية بما فيها القدس، إعمالاً للمادة الدستورية رقم (26) المُتعلقة بالحق في المشاركة السياسية.
- إعادة تشكيل السلطة القضائية في المحافظات الجنوبية بما ينسجم مع أحكام قانون السلطة القضائية، وتوحيدها مع المحافظات الشمالية بما يكفل استقلالها، وسحب قرار تشكيل المحكمة الدستورية العليا، لمخالفته قانون تشكيلها.
- قيام مجلس تشريعي منتخب بمراجعة كافة التشريعات والقرارات بقانون الصادرة أثناء مرحلة الانقسام، لأغراض اعتمادها أو تعديلها أو إلغائها، مع الحفاظ على المراكز القانونية التي نشأت وتتفق مع أحكام القانون، واستكمال عملية توحيد التشريعات التي بدأها المجلس التشريعي الأول عام 1996.
- قيام مجلس تشريعي منتخب بإجراء التعديلات التشريعية التي تحمي بنية ووحدة النظام السياسي، وتحول دون إعادة إنتاج الصراع المرير على الحكم الذي نشأ منتصف العام 2007.
- أن تُراعي التعديلات متطلبات الاحتراس الدستوري، من مخاطر تداخل الصلاحيات بين السلطات العامة، وهيمنة سلطة على أخرى، وإقامة التوازن والتكامل في وظائفهم، وإنفاذ الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها فلسطين في النظام القانوني الفلسطيني، واتخاذ كافة السياسات والقرارات الرامية لجعل تلك التدابير موضع تطبيق من قبل كافة السلطات والمؤسسات والهيئات العامة.
انتهى