تقارير و دراسات

تقرير حول: استهداف قوات الاحتلال لمراكز الإيواء وخيام النازحين في المناطق التي تدعي بأنها "آمنة"، انتهاكات صارخة وجرائم ضد الإنسانية تُرتكب بشكل علني ومتكرر

    شارك :

21 سبتمبر 2024

19 سبتمبر 2024  

مقدمة:

تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي عدوانها العسكري واسع النطاق على قطاع غزة لليوم (349) على التوالي، في إطار ممارستها لجريمة الإبادة الجماعية، التي استخدمت خلالها كافة الوسائل والإجراءات، التي تلحق ضرراً واسع النطاق بالسكان المدنيين والأعيان المدنية وتهدد حياة السكان، وتخلق كارثة إنسانية غير مسبوقة في التاريخ، بعد أن حولت المدنيين والأعيان المدنية إلى أهداف عسكرية مشروعة تتباهى باستهدافها.

وتواصل تلك القوات جرائم القتل والقصف وتدمر البنى التحتية وتستهدف المنشآت الصحية والمدارس والجامعات ودور العبادة ومصادر الغذاء والمياه، وتمنع دخول المساعدات بقدر كافٍ، وترتكب المذابح بحق أسر بأكملها داخل مساكنهم، وتلاحقهم في الأماكن، التي تَدّعي أنها إنسانية وآمنة، بعد إجبارهم على النزوح القسري ووضعهم في ظروف غير إنسانية تهدد حياتهم. وتوجه قوات الاحتلال النازحين إلى أماكن تنعدم فيها أي مقومات للحياة، في مساحة جغرافية ضيقة جداً وغير مهيأة للسكن، أصبحت مكتظة بالنازحين، مع انعدام توافر المياه الصالحة للشرب والغذاء والرعاية الصحية.

صعدت قوات الاحتلال من استهداف المدنيين النازحين الذين يقيمون في خيام ضمن المنطقة التي تدعي أنها إنسانية وآمنة، بالإضافة إلى أولئك في مراكز الإيواء. ورغم الظروف الإنسانية القاسية التي يعاني منها النازحون، كانعدام الخدمات الأساسية وقسوة العيش في خيام بالية غير مناسبة للتغيرات المناخية، إلا أن الهجمات الحربية المفاجئة، والتي قتلت الأطفال والنساء والمرضى والمسنين منذ بدأ حرب الإبادة الجماعية، لم تستثنيهم، وحولتهم إلى أهداف عسكرية مشروعة.

وتترافق أعمال التدمير واسعة النطاق التي تواصلها قوات الاحتلال، بما في ذلك مهاجمة النازحين في خيامهم أو في مراكز الإيواء، مع سلوك واضح ومنظم في منع الإمداد الإنساني عن السكان المدنيين سواء إمدادات الغذاء أو الدواء أو الوقود، والاستمرار في قطع التيار الكهربائي. وأصبحت هذه الجرائم تُرتكب بشكل علني ومتكرر في تحدٍ واضح لقواعد القانون الدولي وكافة القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن والتدابير الاحترازية التي فرضتها محكمة العدل الدولية. بل إن سلطات الاحتلال قلصت من عدد شاحنات المساعدات التي تسمح بمرورها بعد قرار مجلس الأمن رقم 2720 الصادر بتاريخ 22 ديسمبر/كانون الأول 2023، بشأن توسيع وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، كما تعرقل وصولها إلى مدينة غزة وشمالها في انتهاك لنص القرار الذي دعا إلى اتخاذ خطوات عاجلة للسماح الفوري بإيصال المساعدات الإنسانية بشكل موسع وآمن ودون عوائق إلى كل مناطق قطاع غزة.

ويتضح من سلوك قوات الاحتلال أن عمليات التهجير الجماعي القسري لم تكن تهدف إلى حماية المدنيين كما تدعي، بل هي جزء من جريمة الإبادة الجماعية، الرامية إلى تعميق معاناة المدنيين المادية والنفسية. وعمدت تلك القوات إلى فصل شمال قطاع غزة عن جنوبه، واستخدمت عودة المدنيين إلى مناطق سكناهم ووصول المساعدات الإنسانية كوسيلة للضغط وتحقيق مكاسب سياسية، كما استخدمت التجويع والتعطيش كسلاح حرب، في انتهاك صارخ للقوانين الدولية المتعلقة بالمناطق الآمنة، لاسيما اتفاقية جنيف الرابعة وملاحقها التي تمنع استهداف المدنيين والأعيان المدنية، وتفرض حماية خاصة على المناطق التي تضمّ المدنيين غير المقاتلين، لا سيما الأطفال والنساء وكبار السن.

استهداف المناطق الآمنة تكريس لجريمة الإبادة الجماعية

"المنطقة الآمنة: هي منطقة مؤقتة تهدف إلى المحافظة على سلامة المدنيين وحمايتهم وتجنيبهم الأعمال القتالية. ووفق البيان الصادر عن رؤساء اللجنة الدائمة المشتركة بين وكالات الأمم المتحدة (IASC) بتاريخ 16 نوفمبر 2023، يجب أن تتوفر الشروط التالية لجميع المهجرين في "المنطقة الآمنة":

·      اتفاق الأطراف على الامتناع عن خوض الاعمال القتالية في هذه المنطقة أو محيطها واحترام طابعها المدني.

·      تقديم الضرورات الأساسية للبقاء على قيد الحياة، بما فيها الغذاء والمياه والمأوى، والنظافة الصحية، والمساعدة الصحية، والأمان.

·      السماح للمهجرين بالتنقل بحرية والعودة طوعاً إلى أماكن اقامتهم في أقرب وقت ممكن.

تتعدد أوجه جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها قوات الاحتلال بحق السكان المدنيين في قطاع غزة، ومن بين هذه الأوجه تجويع المدنيين وتعطيشهم، وحرمانهم من العلاج، ووضعهم في ظروف غير إنسانية تشكل خطراً على حياتهم. ويتم ذلك من خلال منع وعرقة قوافل الإغاثة من المرور إلى قطاع غزة، تدمير المستشفيات والمراكز الصحية، تدمير شبكات خطوط توزيع المياه ومياه الصرف الصحي، وقطع التيار الكهربائي ومنع دخول الوقود بالكميات الكافية لتشغيل المنشآت التي لا غنى عنها لحياة السكان. كما ساهم تكدس النازحين في مساحة ضيقة جداً، في ظل نقص المياه وانعدام سبل النظافة وتراكم النفايات في الشوارع، في انتشار الحشرات والقوارض، الذي ساعد في تفشي الأمراض والأوبئة بين النازحين.

ومن الوجوه الأكثر إيلاماً وقسوة لجريمة الإبادة الجماعية، استمرار قوات الاحتلال في ملاحقة النازحين الذين هجرتهم قسرياً إلى المنطقة الإنسانية واستهدافهم وارتكاب جرائم وانتهاكات مباشرة وغير مباشرة بحقهم. لقد استهدفت قوات الاحتلال المنطقة الإنسانية من خلال القصف الجوي والمدفعي أكثر من مرة، وأوقعت أعداداً كبيرة من الشهداء بين المدنيين. كما قامت بتدمير البنية التحتية الحيوية المحيطة بتلك المناطق، مثل المستشفيات مراكز الإيواء، وتستخدم الحصار كأسلوب للعقاب الجماعي وتمنع وصول المساعدات الإنسانية. ولا يوجد تبرير لممارسات قوات الاحتلال سوى تكريس جريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فمن نجى من القتل بالقصف والاستهداف المباشر، يواجه ظروفاً إنسانية بالغة القسوة تهدد حياته.

أولاً: القصف الجوي والمدفعي لخيام النازحين في المناطق المصنفة بأنها "آمنة"

تواصل قوات الاحتلال استهداف مراكز الإيواء وخيام النازحين في المناطق التي أعلنتها مناطق إنسانية، ووجهت إليها مئات آلاف من السكان من مختلف أرجاء قطاع غزة، ففي أقل من أسبوع، استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي في 5 أحداث منفصلة، مراكز إيواء وخيام نازحين دون سابق انذار، كان آخرها قصف تجمعٍ للخيام في منطقة العطار جنوب غرب خان يونس، بتاريخ 16 سبتمبر/أيلول 2024. وتسببت الهجمات في قتل وإصابة العشرات من المدنيين، بالإضافة إلى الأضرار التي لحقت بالمئات من النازحين في تلك المناطق، وبثها حالة من الهلع والخوف في نفوس المدنيين.

ووفقاً لعمليات الرصد والتوثيق التي يواصلها باحثو المركز، فقد شنت قوات الاحتلال (41) هجوماً برياً وجوياً وبحرياً، استهدفت خلالها خيام النازحين في المناطق التي أعلنتها سلطات الاحتلال كمنطقة إنسانية. وقد تسببت هذه الهجمات في استشهاد (355) فلسطينياً، من بينهم (36) سيدة و(45) طفلاً، واصابة أكثر من (743) من النازحين بجراح. ويجدر التنويه أن عدد الهجمات أو الضحايا قد يكون أكبر من ذلك، لأن ما يورده مركز الميزان في هذا التقرير هو ما تمكن باحثوه من رصده.

يستعرض مركز الميزان لحقوق الإنسان في هذا التقرير الميداني تفاصيل آخر هجومين على خيام النازحين في المناطق التي يفترض أنها آمنة وفقاً لأوامر قوات الاحتلال كما يأتي:

قصف خيام النازحين في أرض الشاعر، مواصي خان يونس

قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي عند حوالي الساعة 00:30 فجر يوم الثلاثاء، 10 سبتمبر/أيلول 2024، تجمعاً للنازحين وخيامهم في أرض تعود لعائلة الشاعر جنوب منطقة بئر 20 بالقرب من مسجد عثمان بن عفان في مواصي خان يونس. أسفر القصف عن تدمير عشرات الخيام ودفيئات زراعية كانت تأوي نازحين في المنطقة، وأحدثت ثلاثة حفر (اثنتان منهما متجاورتان بحيث تبدوان من الجو كحفرة واحدة)، الواحدة منها بعمق يقدر بنحو 10 أمتار وقطر حوالي 20 متراً، وأدى إلى دفن عدد من الخيام فوق رؤوس ساكنيها بالتراب والركام الذي تناثر لمسافات كبيرة. ووفق شهود العيان، فإن طائرات الاحتلال أطلقت عدة صواريخ متتالية دون سابق إنذار على المنطقة المستهدفة، ما أحدث دماراً كبيراً في المكان، ونظراً لأن المنطقة تضم مئات النازحين من مختلف أنحاء القطاع في خيام متلاصقة، فقد واجهت طواقم الدفاع المدني صعوبة كبيرة في معرفة عدد ضحايا هذه المجزرة.

ووفق المصادر الطبية في مستشفى ناصر الطبي، وصل المستشفى 19 شهيداً، من بينهم عدد من الأطفال والنساء عبارة عن أشلاء. بينما بلغ عدد الإصابات حوالي 60 إصابة من بينها إصابات حرجة، وتم نقل الإصابات إلى عدد من المستشفيات الميدانية بالإضافة إلى مستشفى ناصر الطبي ومستشفى غزة الأوروبي. ووفق تقديرات الدفاع المدني أسفر القصف عن تدمير حوالي 20 خيمة بشكل كامل فوق رؤوس ساكنيها، بينما لحقت أضرار واشتعلت النيران بعشرات الخيام الأخرى في المكان.

مقتطفات من إفادة المواطن أحمد الشاعر، أحد الناجين من حادثة القصف:

أنا أحمد جلال محمد الشاعر، 30 عاماً، أعزب، ومن سكان محافظة رفح جنوب قطاع غزة. أجبرت على النزوح قبل حوالي 4 أشهر مع عائلتي إلى أرض زراعية تعود لعائلة الشاعر بالقرب من منطقة بئر 20 على بعد حوالي 500م عن المستشفى الميداني البريطاني، في منطقة المواصي غرب محافظة خان يونس. أقمت خيمة بين مئات الخيام والنازحين من مختلف أنحاء قطاع غزة، وأقيم فيها أنا وزوجة والدي، سلوى محمد عواد الشاعر، 40 عاماً، وأخوتي حسن، 6 أعوام، سلمى 5 أعوام، ومحمود 26 عاماً. 

عند حوالي الساعة 00:30 فجر يوم الثلاثاء، 10 سبتمبر/أيلول 2024، استيقظت على صوت عدة انفجارات شديدة وصوت تناثر الركام والتراب وصراخ الأطفال والنساء. شعرت مع كل انفجار أن الخيمة تدفن بالتراب فوق رؤوسنا. فقدت الوعي بعد لحظات من ذلك، وأفقت على صوت أشخاص يحملون مصابيح ويقومون بالحفر والبحث عن المصابين. كنت مصدوماً من هول ما حدث ولا أعرف شيئاً عن مصير باقي أفراد أسرتي. بدأ المتواجدون بالحفر وإزالة التراب وإخراج الناس من تحت الأرض، ونقلني عدد من الأشخاص إلى سيارة إسعاف، التي نقلتني إلى مستشفى ناصر الطبي، أنا وابنة أخي سلمى البالغة من العمر 5 سنوات، والتي أصيبت بجروح في ذراعها اليمنى وفي الرقبة. شاهدت عشرات الإصابات والشهداء في الاستقبال والطوارئ، وبقيت في مستشفى ناصر حتى تلقيت الإسعاف الأولي والعلاج. غادرت في الصباح أنا وابنة أخي، وعند وصولي إلى خيمتنا فوجئت من هول ما رأيت من دمار وحفر كبيرة جداً أحدثها القصف، والتي كانت لا تبعد سوى أمتار عن خيمتنا، ودمار هائل في مئات الخيام المجاورة، وشاهدت طواقم الدفاع المدني وهي تحاول البحث عن شهداء ومفقودين في المكان، وأنا الآن أجلس على ما تبقى من أجزاء متناثرة من الخيمة ومحتوياتها، ولا أعرف أين يمكنني الذهاب مع أفراد عائلتي.

مقتطفات من إفادة وسام أبو حسن، أحد الناجين من حادثة القصف:

أنا وسام عبد الرؤوف أحمد أبو حسن، 45 عاماً، متزوج وأب لخمس أبناء من بينهم 3 أطفال، من سكان حي الأمل بالقرب من جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني. أجبرت على ترك منزلي والنزوح إلى خيمة في منطقة حي البراق بالقرب من أبراج طيبة غرب خان يونس. كانت ظروف الحياة صعبة في الخيمة وخاصة بالنسبة لأطفالي، وفي مساء يوم الثلاثاء، 23 يناير/كانون الثاني 2024، فوجئنا بتوغل قوات الاحتلال في المنطقة بشكل مفاجئ وسط إطلاق نار كثيف وتحليق للطائرات وسماع أصوات قصف عنيف في المنطقة تجاه أبراج طيبة السكنية. أصيبت ابنة اختي ريما هشام العمصي، 9 سنوات، بشظية في البطن، وهربت مع أبنائي وزوجتي إلى منزل رائد عبد الكريم كلاب القريب من خيمتنا، واحتمينا في منزله مع حوالي 70 شخص آخرين من النازحين في المنطقة، من بينهم أطفال ونساء.

حوصرنا لمدة يومين ولم يكن لدينا أي طعام وكنا نعاني من نقص مياه الشرب، بالإضافة إلى حالة الخوف والهلع التي أصابت الأطفال والنساء نتيجة أصوات إطلاق النار والقصف وحركة الآليات الحربية في المنطقة. وبعد يومين من الحصار، هدمت جرافة إسرائيلية ضخمة أحد جدران المنزل. شعرنا بالخوف الشديد، وبدأنا نصرخ بثلاثة لغات (العربية، العبرية، والانجليزية) بأننا مدنيين ويوجد أطفال ونساء في المنزل.

وبعد ساعات من الخوف والتوتر، تواصل أحد جنود الاحتلال مع صاحب المنزل رائد عبد الكريم كلاب على الهاتف، وعرف نفسه باسم رامي، وطلب منه خروج من في المنزل ورفع ملابسنا من ناحية البطن والصدر، وأن نتجمع عند الحاووز مقابل أبراج طيبة. وبالفعل، خرجنا إلى هناك، وفصلوا كبار السن والأطفال والنساء عن باقي الرجال والشبان، وأمرونا بالسير في شارع أحمد ياسين تجاه شارع البحر، ثم التوجه إلى مدينة رفح.

كنت أنا مع كبار السن، وشعرت بالقلق والخوف على ابني عبد الرؤوف الذي تم احتجازه مع باقي الرجال، لكن تم الافراج عنه لاحقاً بعد حوالي 6 ساعات من التحقيق الميداني. ومشينا سيراً على الأقدام، وعند شارع البحر وجدنا نقطة تفتيش لقوات الاحتلال، اجتزناها، وتوجهت مع أسرتي إلى مدينة رفح دون أن يكون معي أي شيء من مستلزمات الحياة وأقمت في منزل أحد الأقارب. علمت في وقت لاحق بأن قوات الاحتلال دمرت وحرقت جميع الخيام خلال توغلها في منطقة البراق.

وبتاريخ 11 مايو/أيار 2024، انتقلت للإقامة في خيمة في منطقة العطار بالقرب من عمارة أبو حدايد في مواصي خان يونس، بعد أوامر التهجير والهجوم البري لقوات الاحتلال على مدينة رفح. وبدأت المعاناة من جديد في توفير مستلزمات الحياة وتوفير المياه ومحاولة توفير احتياجات عائلتي، ولم أستطع العودة إلى منزلي في حي الأمل نتيجة الإضرار البالغة التي لحقت به وبالمنطقة.

وعند حوالي الساعة 11:45 مساء يوم الجمعة، 13 سبتمبر/أيلول 2024، بينما كنت نائماً مع أسرتي في الخيمة، صحوت على صوت انفجار شديد وتساقط رمال وشظايا على الخيمة، وشاهدت دخان وغبار كثيف في المكان، وسمعت صراخ وبكاء أبنائي وزوجتي وصراخ أبناء الجيران. استدركت أنه قصف من قبل قوات الاحتلال، وبدأت اتفقد أبنائي وأحاول التخفيف من حالة الخوف والرعب التي أصيبوا بها. رأيت دماءً تنزف من رقبة ابنتي مسك البالغة من العمر 4 سنوات. تفقدتها وكان جرح سطحي في الرقبة. شاهدت نيران تشتعل في محيط خيمتي ودمار في المكان وفي خيام جيراني، وكأنه يوم القيامة. بدأت أحاول إخماد النيران، وتجمع عدد من المواطنين للمساعدة وسمعتهم يقولون بأنهم نقلوا شهيد وعدد من الإصابات. كنت أعتقد أنني في منطقة آمنة ولم نتوقع أن نتعرض للقصف. وتبين في وقت لاحق بأن الشهيد هو أحد جيراننا وأصيب أثناء تواجده في معرش لبيع الفواكه مقابل خيمتنا واسمه أحمد شعبان. وفي الصباح بدأت في تنظيف الخيمة ومحيطها من الشظايا والركام وإعادة ترميمها، وخلال ذلك وجدنا بقايا للصاروخ الذي استهدف المنطقة. أشعر الآن بالحيرة والعجز عن اتخاذ أي قرار، هل أبقى في المكان بعد هذا الحادث؟ وأين يوجد مكان آمن أنتقل إليه؟

استهداف خيم النازحين في مخيم الصمود، مواصي خان يونس

وفي حلقة من سلسلة جرائم استهداف النازحين في خيامهم وداخل حدود المنطقة المسماة إنسانية، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية عند حوالي الساعة 13:15 يوم الاثنين، 16 سبتمبر/أيلول 2024، بصاروخ واحد على الأقل، تجمعاً لخيام النازحين في مخيم الصمود، الواقع شرق مفترق العطار جنوب غرب خان يونس. أسفر القصف عن استشهاد 6 مواطنين، من بينهم طفلان، وإصابة 8 آخرين بجروح متفاوتة، بالإضافة إلى تدمير عدد من الخيام وإلحاق أضرار بعشرات الخيام الأخرى. وأفادت مصادر طبية أن بعض الشهداء وصلوا  أشلاء، ووصفت حالات المصابين بين متوسطة وخطيرة.

تجدر الإشارة إلى أن مخيم الصمود أنشئ على أراض رملية مفتوحة شرق محطة العطار بحوالي 700م غرب خان يونس، ويضم 550 خيمة خصصت لإخلاء مستشفى غزة الأوروبي من المرضى والنازحين، وافتُتح بتاريخ 25 أبريل/نيسان 2024. وتضاعف عدد النازحين في المخيم ومحيطه بعد اجتياح قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة رفح، وأصبح مكتظاً بالنازحين الذين أجبروا على النزوح في فترات مختلفة نتيجة أوامر التهجير القسري المتكررة لقوات الاحتلال الإسرائيلي، ويقدر عدد النازحين في هذه المنطقة بمئات الآلاف.

مقتطفات من إفادة المواطن عاطف الغليظ، أحد الناجين من حادثة قصف المخيم:

أنا عاطف رفيق الغليظ، أبلغ من العمر 50 عاماً، من سكان جباليا البلد شمال قطاع غزة، ونازح في مخيم الصمود غرب خان يونس. أُجبرت على النزوح من منزلي في جباليا شمال قطاع غزة إلى حي تل السلطان في مدينة رفح جنوب القطاع خلال شهر نوفمبر2023، نتيجة القصف العنيف وأوامر التهجير المتكررة من قبل قوات الاحتلال. بقيت مع عائلتي في خيمة في منطقة الفضيلة في حي تل السلطان، حيث عانينا من نقص الخدمات وصعوبة الحصول على مياه نظيفة ومياه صالحة للشرب، بالإضافة إلى الظروف القاسية خلال فصل الشتاء.

في يناير 2024، أصبت بعيار ناري في ركبتي اليمنى، بالقرب من مستشفى ناصر الطبي، خلال الهجوم البري لقوات الاحتلال على تلك المنطقة. نقلت للعلاج في مستشفى غزة الأوروبي، حيث خضعت لعدة عمليات لتثبيت وتركيب بلاتين في ساقي الأيمن، وبقيت في المستشفى لمتابعة العلاج حتى تاريخ 25 أبريل/نيسان 2024. بعد ذلك، تم إخراجي مع بعض الجرحى والمرضى إلى مخيم خاص بالنازحين يُسمى مخيم الصمود، وانتقلت عائلتي من رفح للإقامة معي في المخيم، والذي يضم خياماً أقيمت في منطقة رملية شرق منطقة العطار.

وبعد بدأ الهجوم البري لقوات الاحتلال على مدينة رفح، تضاعف عدد الخيام والمعرشات في المنطقة وأصبح مكتظاً جداً بالنازحين. وعند حوالي الساعة 1:15 مساء يوم الاثنين، 16 سبتمبر/أيلول 2024، أثناء تواجدي في الخيمة، سمعت صوت انفجار شديد وصوت صراخ وجلبة في المنطقة، وشعرت بالخوف والقلق على أبنائي المتواجدين في الخارج يبيعون الحلويات على بسطة مقامة في الشارع. رأيت زوجتي وزوجة ابني يخرجان من الخيمة للاطمئنان على أبنائنا، وسمعت من الخارج أن هناك إصابات. وبسبب إصابتي، لم أستطع الخروج وبقيت في الخيمة ممدداً، والبلاتين مثبت في ساقي الأيمن. بعد وقت قصير، أبلغني أحد الجيران أن أبنائي، إياد (23 عاماً) ومحمد (18 عاماً)، وابن شقيقي محمد منتصر الغليظ (37 عاماً)، قد أصيبوا بجروح وجرى نقلهم إلى مستشفى ناصر الطبي.

وبعد فترة قصيرة، أُبلغت بأن ابني اياد، وهو متزوج وأب لطفلين، قد استشهد نتيجة اصابته بجروح في الرأس وجميع أنحاء جسده. وعاد ابني محمد من المستشفى بعد أن تلقى العلاج، وكان مصاباً بشظايا في قدمه اليمنى. علمت أيضاً بوجود عدد من الشهداء والإصابات من الجيران نتيجة القصف".

ثانياً: قصف مدارس تحولت إلى مراكز إيواء:

منذ شروع قوات الاحتلال الحربي الإسرائيلي في جريمة الإبادة الجماعية، أصدرت أوامر تقضي بإخلاء سكان محافظتي غزة وشمالها قسرياً من منازلهم وعن مناطق سكنهم والتوجه إلى جنوب وادي غزة معلنةً مناطق غزة وشمالها مناطق قتال خطيرة. وبالفعل اضطر عدد كبير من السكان للانصياع لأوامر الاحتلال وتوجهوا جنوباً إلى المنطقة التي تدعي قوات الاحتلال أنها مناطق آمنة. وشرعت قوات الاحتلال الإسرائيلي في ارتكاب المجازر في مناطق الجنوب، كما هو الحال في الشمال، وعليه قرر العديد من المواطنين البقاء في مناطقهم، فلا مكان آمن في قطاع غزة.

وشرعت قوات الاحتلال بتنفيذ جريمة تطهير عرقي وتهجير قسري، تلخصت في تدمير واسع النطاق للبنية التحتية والمنازل والبنايات السكنية وممتلكات المواطنين في شمال قطاع غزة، وارتكاب مجازر بشعة بحق المدنيين، بهدف ترويع من تبقى من المواطنين وتهجيرهم إلى مناطق جنوب غزة. وأمام التدمير واسع النطاق الذي طال الشقق والمنازل السكنية، اضطر المواطنون إلى اللجوء إلى المدارس واتخذوا من صفوفها مساكن لهم.

وهذه السياسة الإجرامية المتوحشة لم تقتصر على منطقة بعينها سواء في غزة وشمالها أو في مناطق جنوب وادي غزة. ورغم عدم تواجد هذه المدارس في مناطق أعلن عنها كمنطقة إنسانية آمنة، إلا أنها كانت في أماكن لم تعلن عنها قوات الاحتلال كمناطق قتال خطرة، ولم تحذر السكان أو تطالبهم بإخلائها.

وظهر جلياً أن لا حصانة لأي مدني أو منشأة مدنية، بما في ذلك المدارس التي تحولت إلى مراكز إيواء، ولم يشفع للمدنيين حتى علم الأمم المتحدة الذي ترفعه المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (UNRWA). وفي سياق استهداف مراكز الإيواء، رصد باحثو مركز الميزان لحقوق الإنسان (25) هجوماً، على مدارس تحولت إلى مراكز إيواء لجأ اليها النازحون، وتسببت الهجمات في استشهاد (385) مواطناً على الأقل، من بينهم (72) سيدة و(35) طفل، وإصابة أكثر من (667) آخرين بجروح متفاوتة.

قصف مدرسة ابن الهيثم شرقي الشجاعية:

أجبرت قوات الاحتلال الإسرائيلي مئات آلاف المدنيين الفلسطينيين في مدينة غزة وشمالها على مغادرة منازلهم ومناطقهم السكنية، بعد أن أمرتهم بمغادرتها وأعملت القتل والتدمير في البشر وفي المنازل والمنشآت والبنية التحتية، لتقضي على أسباب الحياة وتجعل البقاء في المناطق السكنية مستحيلاً. واضطر من تبقى من مدنيين في مدينة غزة وشمالها للجوء إلى المدارس والمستشفيات قبل أن تشرع قوات الاحتلال في الهجوم على المستشفيات وتدميرها واعتقال الطواقم الطبية والمرضى لتصبح المدارس هي ملجأهم الوحيد، بحيث تحولت معظم المدارس إلى مراكز إيواء، وتحولت فصولها إلى مساكن وساحاتها إلى تجمعات خيام تأوي الأسر المشردة. ومن المدارس التي لجأ إليها المدنيون مدرسة ابن الهيثم، الواقعة في شارع عمر المختار من الجهة الشرقية لمدينة غزة.

هاجم الطيران الحربي ظهر الأربعاء، 18 سبتمبر/أيلول 2024، وقصف المبنى الغربي لمدرسة ابن الهيثم بالصواريخ، ما تسبب في استشهاد 8 من النازحين، من بينهم 5 أطفال، عُرف منهم: عيسى أنس أبو حليمة (3 سنوات)، مالك أنس أبو حليمة (سنتين)، فؤاد محمد السيقلي (5 سنوات)، عماد محمد السيقلي (شهرين ونصف)، بالإضافة لسيدتين، وإصابة عدد آخر بجراح خطيرة منها حالات بتر. واخترقت صواريخ الاحتلال ثلاثة طوابق وانفجرت بالطابق الأرضي، ما أدى إلى تدمير 6 فصول دراسية، دمرت 4 منها بشكل كلي. ومع ذلك استمرت المدرسة كمركز إيواء في ظل انعدام خيارات الناس بعد تدمير منازلهم. ويبلغ عدد الأسر النازحة في هذه المدرسة حوالي 35 أسرة، ويقدر العدد الإجمالي للنازحين داخل المدرسة بحوالي 210 نازح/ة.

وحول الهجوم على مدرسة ابن الهيثم، صرّح المواطن أحمد أبو الكاس، أحد الناجين من القصف، بما يلي:

أنا المواطن أحمد حمدان محمد أبو الكاس، أبلغ من العمر 30 عاماً، متزوج وأب لطفل، وأسكن في منطقة المنطار شرقي حي الشجاعية شرق مدينة غزة. نزحت من منزلي إلى مدرسة ابن الهيثم شرق المدينة منذ يوليو/تموز 2024.

في ظهر يوم الأربعاء، 18 سبتمبر/أيلول 2024، كنت جالساً داخل الفصل الدراسي الذي اتخذته بيتاً لي، وأنوي الذهاب إلى السوق. خرجت من الفصل وما أن وصلت ساحة المدرسة حتى سمعت صوت انفجار قوي وأصوات تطاير شظايا وحجارة وانعدمت الرؤية نتيجة الغبار والدخان الناجم عن القصف. بدأت بعدها أسمع أصوات صراخ ونداءات استغاثة تأتي من جهة المبنى الغربي للمدرسة، فأدركت أن القصف طال المدرسة التي أتواجد فيها، وهرعت إلى المبنى الغربي وما أن وصلت حتى فجعت بالمشاهد التي رأيتها، نساء قطّعت أطرافهم، وقطع من اللحم المتناثرة، وأطفال مدفونين تحت ركام الفصل. بدأت بمساعدة بعض الشبان بانتشال الضحايا، وبدأت بتجميع قطع اللحم المتناثرة ووضعها داخل كيس بلاستيكي، بعد ذلك ذهبت إلى الطوابق العليا، وسمعت هناك صرخات من النساء والأطفال، وما أن وصلت إحدى الفصول حتى وجدت رجل من عائلة المبيض مرمي على الأرض ورجله مقطوعة ودمه متناثر على حائط الفصل الذي يسكنه، وكان عدد من أبناءه الأطفال ملقين على الأرض ينزفون. حملنا المصابين أنا والشبان وقمنا بنقلهم عبر عربايات (عربات كارو تجرها الحمير) إلى مدرسة الرملة القريبة من مدرسة ابن الهيثم، إلى أن وصلت سيارات الإسعاف وقامت بنقلهم جميعاً إلى مستشفى المعمداني.  

قصف مدرسة بنات النصيرات الإعدادية "أ" (الجاعوني) وسط مخيم النصيرات

وفي سياق الهجوم على مراكز الإيواء، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية بعدد من الصواريخ عند حوالي الساعة 16:00 من يوم الأربعاء، 11 سبتمبر/أيلول 2024، مدرسة بنات النصيرات الإعدادية "أ" (الجاعوني) وسط مخيم النصيرات في المحافظة الوسطى، والتي اتخذتها العائلات والأسر كمركز للإيواء، واتخذت الفصول الدراسية غرفاً للمعيشة والنوم. فيما قامت بعض الأسر بنصب الخيام داخل ساحة المدرسة بسبب اكتظاظ الفصول بالنازحين. ويقدر عدد الأسر بنحو (700) أسرة قوامها (3,500) فرداً.

استهدف القصف المبنى الشرقي من المدرسة والمكون من ثلاث طبقات، واخترق أحد الصواريخ السطح الثالث والثاني والأول، وتسبب في تدمير مختبر العلوم، وهو المكان الذي خصص لتخزين المواد الغذائية للنازحين، حيث تصادف بداخله لحظة القصف (6) من طاقم المدرسة الإداري الذي يشرف على إدارة شؤون النازحين، كانوا يتناولون طعام الغذاء.

تسبب القصف في استشهاد (16) مواطناً، من بينهم (4) أطفال، و(6) من طاقم المدرسة التابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وإصابة (25) آخرين، من بينهم عدد من الأطفال والنساء. وألحق أضراراَ جسيمة في المبنى. وعلى إثر الهجوم هرعت سيارات الإسعاف إلى المكان ونقلت الشهداء والجرحى إلى مستشفى العودة في مخيم النصيرات، ومستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح. والشهداء هم: مدير الموقع نايف حمدي الحطاب البالغ من العمر (58) عاماً، ونائبه ياسر إبراهيم أبو شرار، (39) عاماً، ومسؤول المخزن هاني محمود مطر، (47) عاماً، ومسؤول المواد غير الغذائية إياد يعقوب مطر، (52) عاماً، ومسؤول إدارة المحروقات محمد عدنان أبو زايد، (43) عاماً، وحسام حسن أبو حماد، (34) موظف.

ووفق شهود العيان، فقد جاء القصف بينما كانوا داخل الفصول الدراسية والخيام، حيث تناثرت الشظايا على مساحة واسعة، وتسببت في هذا العدد الكبير من الضحايا. ويشار إلى أن المدرسة تعرضت للقصف خلال حرب الإبادة الجماعية (5) مرات، وأسفرت الهجمات المتكررة عن سقوط عدد من الشهداء والجرحى في صفوف النازحين.

وحول الهجوم على مدرسة بنات النصيرات، صرح المواطن فضل البرديني، أحد الناجين من القصف، بما يلي:

أنا فضل على ربيع البرديني، أبلغ من العمر (59) عاماً، نازح من منطقة المغراقة جنوب مدينة غزة، في مدرسة بنات النصيرات الإعدادية "أ" (الجاعوني) وسط مخيم النصيرات. بينما كنت جالسًا مع 17 فردًا من أفراد أسرتي الممتدة في خيمتنا بفناء المدرسة، مقابل المبنى الشرقي، نتناول طعام الغداء، سمعت صوت انفجار شديد، وأصبت في أذني اليسرى. سقطت الخيمة علينا من شدة الانفجار. عندما تمكنت من النهوض ونظرت حولي، رأيت زوجات أبنائي وأحفادي ملقين على الأرض، كما رأيت عددًا من المواطنين ملقين على الأرض والدماء تسيل من أجسادهم، وأشلاءً متناثرة حول الخيمة. في تلك اللحظات، فقدت الوعي. عندما استعدت وعيي، وجدت نفسي في مستشفى شهداء الأقصى. أعادني هذا الحادث إلى ذكريات الحادث السابق الذي أصيبت فيه حفيدتي سيدرا علي فضل البرديني، البالغة من العمر 6 سنوات، وبُترت ساقها اليسرى."

قصف مدرسة شهداء الزيتون الثانوية في مدينة غزة

هاجم الطيران الحربي مدرسة شهداء الزيتون الثانوية للبنين، عند حوالي الساعة 17:00 من مساء السبت، 14 سبتمبر/أيلول 2024، بصاروخين اخترقا ثلاث طبقات من المبنى الجنوبي للمدرسة، ودمرا 7 فصول دراسية، 5 منها بشكل كامل واثنين لحقت بهما أضرار جزئية جسيمة. وتسبب الهجوم في استشهاد 4 مواطنين، من بينهم سيدة، وإصابة 10 آخرين بجراح متفاوتة، وتم نقلهم جميعاً إلى المستشفى المعمداني الذي يبعد حوالي 5 دقائق عن المدرسة عبر عربات الكارو (تجرها الحيوانات). وتقع المدرسة وسط حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة، وبعد أن تحولت إلى مركز إيواء، لجأ إليها حوالي 370 نازح/ة من حوالي 68 أسرة، معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن، وذلك حسب المعلومات التي زود بها السيد رائد محمد ملكة، مدير مركز الإيواء، باحثي المركز الميدانيين.

وحول الهجوم على مركز الإيواء أفاد شاهد العيان سعيد حواس، بما يلي:

أنا سعيد أسعد سعدي حواس، أبلغ من العمر 53 عاماً، متزوج وأسكن في حي الزيتون شرق مدينة غزة، وأنا نازح حالياً في مدرسة شهداء الزيتون، وأتخذ من فصل دراسي يقع في الطابق الثاني من المبنى الغربي للمدرسة سكناً لي ... نتيجة لاشتداد القصف الإسرائيلي على حي الزيتون وارتكاب العديد من المجازر، نزح أبنائي وأحفادي إلى مناطق جنوب قطاع غزة وبقيت أنا وزوجتي في غزة ... وبفعل اجتياح الدبابات الإسرائيلية لحي الزيتون والقصف المدفعي الكثيف تنقلت ونزحت أكثر من 5 مرات فلا استقرار ولا مكان آمن.

كنت أجلس عند حوالي الساعة 17:10 يوم السبت، 14 سبتمبر/أيلول 2024، على درجات سلم أمام المبنى الغربي للمدرسة أداعب طفلين من الأطفال النازحين داخل المدرسة، رأيت فيهم أحفادي الذين نزحوا إلى مناطق جنوب القطاع. وفجأة حدث انفجار قوي وتناثرت الشظايا وأصبح الغبار يملأ المكان، فحملت الطفلين وهرعت لإدخالهم داخل أحد الفصول، وما هي إلا ثواني معدودة، حتى سمعت انفجاراً آخراً، فحملت الطفلين وهرعت مرة أخرى، ولكن هذه المرة إلى خارج المدرسة لأني أدركت أن القصف كان داخل المدرسة، وبدأت بسماع صوت الصراخ والبكاء من داخل المدرسة، فدخلت إليها وشاهدت الناس وهم ينقلون الشهداء والمصابين عبر عربات تجرها الحيوانات. بعد هذا القصف فكرت جدياً بترك المدرسة والرحيل عنها إلى مكان أكثر أمناً، ولكني لم أجد أي مكان آمن، فقررت البقاء فيها أنتظر مصيري، فإما أن تنتهي الحرب وننجو وإما فحالي حال باقي الشهداء.

ثالثاً: الحصار وتدمير البنية التحتية الحيوية في المناطق الإنسانية:

تعمدت قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء عدوانها على قطاع غزة تدمير أسباب الحياة، لتحوّل قطاع غزة إلى مكان غير صالح للعيش، واستخدمت سياسة التدمير واسع النطاق للمساكن والمنشآت الطبية والتعليمية والمدنية، كمقار البلديات والدوائر الحكومية والمؤسسات الأهلية، والطرق وشبكات تغذية المياه وتصريف المياه العادمة، وشبكات نقل التيار الكهربائي. كما وفرضت حصاراً منعت بموجبه أو عرقلت وصول الغوث الإنساني. وبعد أن أجبرت قوات الاحتلال السكان المدنيين على إخلاء منازلهم ومناطقهم قسرياً وبشكل متكرر، وحشرتهم في مساحة جغرافية محدودة من قطاع غزة تفتقر للخدمات والمياه والصرف الصحي والمرافق ولا تحتمل الأعداد الكبيرة من النازحين، تواصل مهاجمتهم في مراكز الإيواء وفي الخيام.

بلغت مساحة المنطقة الإنسانية المستحدثة بتاريخ 6 مايو/أيار 2024، والتي تم "توسيعها" حسب ادعاء قوات الاحتلال لتمتد من محافظة دير البلح شمالاً حتى مواصي خان يونس جنوباً، وشرقاً حتى وسط خان يونس (كما هو موضح في الخريطة أسفله)، حوالي (59) كيلومتراً مربعاً. وتم ذلك بعد بدء الهجوم البري على مدينة رفح وإصدار أوامر إخلاء لبعض المناطق بالمدينة، حيث أجبرت قوات الاحتلال أكثر من مليون فلسطيني على النزوح مرة أخرى، ولاسيما أولئك الذين نزحوا إلى رفح منذ بداية حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة بتاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. والجدير بالذكر أن قوات الاحتلال كانت قد قلصت المنطقة المذكورة بتاريخ 16 أغسطس/آب 2024، لتصل إلى (40) كيلو متراً مربعاً، بعد أن أصدرت أوامر إخلاء جديدة تضم أجزاءً من محافظة دير البلح، لتتراجع بعد ذلك وتسمح للسكان والنازحين في تلك المناطق بالعودة إليها بتاريخ 30 أغسطس 2024.

وفي استمرار لاستخدام العقوبات الجماعية والتجويع كأسلوب من أساليب الحرب فرضت قوات الاحتلال الاسرائيلي حصاراً خانقاً على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ما خلق أزمة إنسانية غير مسبوقة، نتيجة شح إمدادات الغذاء والماء والدواء، ونزوح غالبية سكان القطاع. الأمر الذي جعل من هذه المناطق بؤر لانتشار الأوبئة والأمراض، وضاعف من معاناة النازحين ووضعهم في ظروف قاهرة ولا إنسانية.

خريطة توضح المنطقة المصنفة بالإنسانية

 

1. انعدام المأوى الآمن:

أمام التدمير غير المسبوق للمنازل والشقق السكنية وانعدام مواد البناء، اعتمد النازحون في المخيمات على بنية تحتية بسيطة وبدائية لتوفير مأوى موقت، وعلى بعض ما توفر في الأسواق من مواد ومستلزمات لبناء خيام ومعرشات مؤقتة من الأقمشة والأخشاب بأسعار مرتفعة جداً نتيجة الحصار المفروض على قطاع غزة، وهذا ما أدى إلى تفاقم معاناة النازحين وعرضهم للظروف الجوية القاسية، وتزداد معاناة النازحين مع اقتراب فصل الشتاء وضعف الإمكانيات وندرة الموارد التي تساعد على إعادة ترميم خيامهم.

2. انهيار الخدمات الأساسية: تفتقر المناطق التي أُجبر معظم سكان قطاع غزة إلى النزوح إليها _كمناطق إنسانية_ إلى شبكات مياه الاستخدام المنزلي، والمياه النظيفة الصالحة للشرب، إضافة إلى مرافق الصرف الصحي. وتسبب سلوك قوات الاحتلال، واستهدافها الممنهج للبنية التحتية كآبار وشبكات توزيع المياه وشبكات الصرف الصحي، في نقص حاد في مياه الاستخدام المنزلي (غير الصالحة للشرب بسبب ملوحتها) ومياه الشرب، كما ساعد على انتشار الأمراض والأوبئة، ومع استمرار الحصار وفرض قوات الاحتلال قيود على المساعدات وعلى ما يتم إدخاله إلى قطاع غزة، تقف المنظمات الإنسانية عاجزة عن تقديم الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية وتزويد النازحين بالمياه، إلى جانب توقف خدمات التعليم بكل مراحله بشكل كامل. كما أن البنية التحتية المتهالكة وتلف الخيام ووجودها في كثير من المناطق التي تكتسحها مياه الأمطار تنذر بمزيد من المعاناة للنازحين في ظل اقتراب فصل الشتاء.

3. تدهور الوضع الصحي وانتشار الأمراض والأوبئة:

يشير تقرير صادر عن مكتب تنسيق الشئون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة التابع للأمم المتحدة، بأن نحو 50٪ من الأدوية الأساسية غير متوفرة، وتواجه مراكز الرعاية الصحية الأولية انخفاضاً حاداً في مستويات الأنسولين. كما أن اللقاحات الروتينية كلقاح باسيل كالميت-جيرين (BCG) لحماية الرضع من السل، واللقاح الثلاثي البكتيري (DTP) لتحصينهم ضد الخناق والكزاز والسعال الديكي قد استنفدت تقريباً، مما يزيد من الخطر على الأطفال حديثي الولادة.

كما وشاعت الأمراض الجلدية بين النازحين مثل جدري الماء، متلازمة الطفح الجلدي، الجرب، وأمراض أخرى كالتهاب السحايا، والأمراض التنفسية المنقولة بالرذاذ، والالتهابات البكتيرية وغيرها من الأمراض الوبائية. وارتفعت نسبة انتشار الأمراض المعدية مثل النزلات المعوية والإسهال الحاد، وبلغ عدد حالات الإصابة بعدوى التهاب الكبد الوبائي (71,338) حالة، وظهرت بعض الأوبئة مؤخراً مثل فيروس شلل الأطفال، حيث سُجلت أول حالة للإصابة بالمرض لرضيع يبلغ من العمر 10 أشهر، بعد 25 عاماً من القضاء على الفيروس في غزة، الأمر الذي يهدد حياة آلاف الأشخاص في المخيمات.

وتتفشى الأمراض والأوبئة بعد أن دمرت قوات الاحتلال المستشفيات والمرافق الصحية وأخرجتها عن الخدمة، لا سيما تلك القريبة من أماكن النازحين، كما أدت أوامر التهجير المتواصلة إلى الضغط على ما تبقى من مؤسسات الصحية التي أعيدت للخدمة بشكل جزئي، نتيجة ارتفاع عدد المرضى والمراجعين بالإضافة إلى العدد المهول من الإصابات التي تتوافد نتيجة القصف المتواصل للمدنيين. وأدى الحصار المفروض على قطاع غزة إلى نقص في الأدوية والمستلزمات الطبية ومستلزمات النظافة الشخصية، والغذاء الصحي الكافي، لا سيما للمرضى والأطفال والنساء، وارتفعت حالات الوفاة نتيجة لأمراض كان من الممكن علاجها في ظروف أخرى.

4. نقص المياه وانعدام الأمن الغذائي:

أدى الحصار المفروض على قطاع غزة إلى منع وصول المواد الغذائية والمياه النظيفة إلى النازحين، مما تسبب في إحداث مجاعة وشيوع سوء التغذية، خاصة بين الأطفال والنساء الحوامل والمسنين، بل وتسببت في وفيات نتيجة المجاعة وسوء التغذية، وهناك أطفال معرضون للموت بسبب سوء التغذية ونقص الغذاء. وحذر تقرير دولي حول الأمن الغذائي من المخاطر العالية لحدوث مجاعة في أنحاء قطاع غزة، وأشار إلى أن حوالي 96% من سكان قطاع غزة، يواجهون مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي الحاد.

5. الآثار النفسية والاجتماعية:

يعيش النازحون في حالة دائمة من الخوف والقلق، وخاصة الأطفال والنساء، بسبب عدم توفر احتياجاتهم الأساسية، وتعرضهم للاستهداف المتكرر حتى في المناطق التي أجبروا على النزوح إليها، الأمر الذي يفاقم من مشكلاتهم النفسية. وأصبح معظم أهالي سكان قطاع غزة يحتاجون إلى خدمات الصحة النفسية والاسناد النفسي والاجتماعي، لاسيما الفئة الأكثر هشاشة كالأطفال والنساء، حيث برزت مهددات الحماية بشكل واضح وملحوظ كعمالة الأطفال، والإهمال، والعنف، والاستغلال، والإساءة، والزواج المبكر، وغيرها من مهددات حماية الطفولة، كما شاع الطلاق بين الأزواج وازدادت الشجارات العائلية بين النازحين.

الخلاصة:

تستمر قوات الاحتلال الإسرائيلي في ارتكاب المزيد من المجازر والجرائم لليوم ال (349)، وتستهدف المدنيين في المناطق التي تدعي أنها آمنة بالقصف الجوي والمدفعي، وتدمر البنية التحتية الأساسية في تلك المناطق، وتستخدم الحصار كأسلوب للعقاب الجماعي، وتمنع وصول المساعدات الإنسانية، ما أوقع المئات من الشهداء والمصابين، وفاقم من معاناة السكان والنازحين، وجعلهم يواجهون خطر الموت  يوماً بعد يوم، جراء عمليات القصف المباشر، ومن خلال الظروف غير الإنسانية التي يعيشها المهجرون، في سياق جريمة الإبادة الجماعية المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

وبناءً عليه، يطالب المركز المجتمع الدولي بالتحرك الجاد والفوري لإجبار دولة الاحتلال الإسرائيلي على الالتزام بقرارات محكمة العدل الدولية الملزمة، ولاسيما التدابير الاحترازية لمنع ارتكاب إبادة جماعية تستهدف 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة، من خلال سياسة القتل الجماعي وإيقاع الأذى الجسدي والنفسي البليغ، والتدمير الشامل للمنازل والبنى التحتية ومقومات الحياة، والعقاب الجماعي المتمثل بالتجويع والتعطيش والحرمان من العلاج ودفعهم إلى النزوح بعيداً عن أماكن سكناهم في ظروف تفتقر لأبسط حقوق الإنسان ومن ثم استهدافهم في مكان نزوحهم وقتله،. وإجبار قوات الاحتلال على السماح الفوري للنازحين للعودة إلى أماكن سكناهم وتمكينهم من الوصول إلى الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية، ومنع استهداف المناطق الإنسانية المكتظة.

ويطالب المركز الأطراف السامية المتعاقدة على إتفاقية جنيف الرابعة إجبار دولة إسرائيل، بصفتها القوة القائمة بالاحتلال، بالوفاء بكامل التزاماتها وفق المواد 55، 56 من اتفاقية جنيف الرابعة، بما يضمن حماية المدنيين والمدنيات والحفاظ على كرامتهم.